التعصب القبلي يعيق التنمية

مقدمة

يُعدّ التعصب القبلي من أبرز المعوقات التي تواجه مسيرة التنمية في العديد من المجتمعات، لاسيما في البيئات التي لم تُنجز بعد مشروع الدولة المدنية القائمة على المواطنة المتساوية وسيادة القانون. هذا التعصب لا يُعد فقط ظاهرة اجتماعية قديمة ترتبط بجذور التاريخ والتراث، بل أصبح في ظل الظروف الراهنة عقبة حقيقية أمام تحقيق التنمية المستدامة، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي. إن ارتباط الفرد بانتمائه القبلي بشكل متعصب يُولّد تحزبات وتكتلات تُهدد وحدة المجتمع، وتُقلل من فرص بناء دولة المؤسسات.

مفهوم التعصب القبلي

يعني التعصب القبلي انحياز الفرد أو الجماعة بشكل مفرط وغير عقلاني للقبيلة أو العشيرة التي ينتمي إليها، مع اعتبار أفراد القبيلة الآخرين الأفضل والأحق في الامتيازات، ورفض الآخر المختلف بغض النظر عن كفاءته أو قدراته. ويندرج هذا التعصب تحت مفاهيم أوسع مثل العصبية والعنصرية، حيث يكون معيار الولاء والانتماء هو الدم أو النسب وليس المبادئ أو القيم أو القانون.

الجذور التاريخية للتعصب القبلي

ينبع التعصب القبلي من أنماط الحياة القديمة التي سادت في المجتمعات البدوية، حيث كانت القبيلة تشكل الإطار الأساسي للهوية والحماية والتنظيم الاجتماعي. في ظل غياب مؤسسات الدولة، لعبت القبيلة دورًا في حفظ الأمن وتوزيع الموارد وحل النزاعات. ومع أن المجتمعات الحديثة تجاوزت إلى حد كبير هذا الدور، إلا أن بعض الدول والمجتمعات ما زالت تعاني من بقاء هذه البُنية التقليدية على حساب مؤسسات الدولة الحديثة. ويستمر هذا النمط حين لا تُقدم الدولة بديلاً عادلاً وفاعلاً يشعر معه الفرد بالانتماء الوطني فوق الانتماء القبلي.

مظاهر التعصب القبلي في المجتمعات الحديثة

رغم التحولات الكبرى التي شهدتها المجتمعات العربية والإفريقية والآسيوية في العقود الأخيرة، لا يزال التعصب القبلي حاضرًا بقوة، ويتجلى في أشكال متعددة منها:

1. المحسوبية والواسطة في الوظائف: حيث يتم تفضيل أبناء القبيلة على أساس الانتماء وليس الكفاءة.

2. التحزبات السياسية القائمة على الولاء القبلي: وهو ما يُضعف الأحزاب ويُحوّل العمل السياسي إلى مجرد صراع قبلي مقنع.

3. التوزيع غير العادل للموارد والخدمات: حين يُستخدم النفوذ القبلي لتوجيه المشاريع والموازنات العامة إلى مناطق محددة دون مراعاة للاحتياجات الفعلية.

4. العنف القبلي والنزاعات الدموية: التي تنشأ لأسباب واهية وتُهدد الاستقرار الداخلي وتقوض السلم الاجتماعي.

5. التأثير في القضاء وأجهزة الأمن: مما يضعف سيادة القانون ويؤدي إلى انتشار الفوضى والظلم.

6. الإقصاء الاجتماعي والثقافي: حيث يُنظر إلى الأفراد من خارج القبيلة كغرباء، ويُحرمون من فرص التقدّم والاندماج في مؤسسات الدولة.

التأثير السلبي للتعصب القبلي على التنمية

التنمية مفهوم شامل يتطلب توافر بيئة مستقرة، ومؤسسات قوية، وعدالة في توزيع الفرص والموارد. ويُشكل التعصب القبلي نقيضًا مباشرًا لكل هذه الأسس، ويمكن تلخيص تأثيراته السلبية في النقاط التالية:

1. إعاقة بناء دولة المؤسسات

حين تحل الولاءات القبلية محل الولاء للدولة، يُفقد النظام المؤسسي حياده وفاعليته. وتصبح المؤسسات عرضة للتفكك والتسييس، مما يؤدي إلى ضعفها في أداء دورها في التخطيط والتنفيذ والرقابة. ويُنظر إلى مؤسسات الدولة كأدوات تخدم مصالح قبلية ضيقة، وليس كمؤسسات وطنية شاملة.

2. إضعاف مبدأ المواطنة

المواطنة تعني المساواة أمام القانون، وامتلاك جميع الأفراد نفس الحقوق والواجبات. أما في المجتمعات التي يسود فيها التعصب القبلي، فإن الانتماء للقبيلة يصبح أهم من المواطنة، ما يُخلق طبقات مجتمعية غير متكافئة، ويُشعر بعض الأفراد بالتهميش والعزلة.

3. تعطيل الكفاءة البشرية

الكفاءة البشرية هي رأس المال الأهم في عملية التنمية. غير أن المحسوبية القبلية تُقصي الكفاءات لحساب أبناء القبائل الموالية أو النافذة، مما يؤدي إلى تدهور الأداء في مؤسسات التعليم والصحة والإدارة، ويُفقد المجتمع القدرة على التطور والتنافس.

4. تعميق الانقسامات والنزاعات

ينشأ عن التعصب القبلي بيئة خصبة للنزاعات الأهلية والصراعات المجتمعية التي تستنزف الموارد وتُرهق الدولة. كما يُعيق هذا الواقع إقامة شراكات اقتصادية ومشاريع تنموية مستدامة بسبب عدم الاستقرار والانقسام الحاد في المجتمع.

5. تراجع الاستثمارات الاقتصادية

البيئة القبلية المنغلقة تُخيف المستثمرين، سواء المحليين أو الأجانب، نظرًا لغياب الشفافية، وتفشي الفساد، وصعوبة فرض القانون بشكل موحد. ويُسهم ذلك في تراجع معدلات النمو الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة والفقر.

دراسات حالة من العالم العربي

اليمن

في اليمن، شكّلت البنية القبلية أحد أبرز العوائق أمام بناء الدولة الوطنية منذ عقود. وظلّت القبائل تلعب دورًا سياسيًا وعسكريًا كبيرًا، ما أدى إلى تقويض سلطة الدولة المركزية، وتكرار الصراعات المسلحة، وانهيار مشاريع التنمية في معظم أنحاء البلاد.

ليبيا

بعد سقوط النظام السابق، فشلت ليبيا في إعادة بناء دولة مؤسسات بسبب عودة الولاءات القبلية إلى الواجهة، ما أدى إلى انقسام سياسي حاد، وحروب متكررة بين فصائل تدّعي تمثيلها لقبائلها، بدلاً من الانخراط في بناء مشروع وطني جامع.

السودان

شهد السودان صراعات مسلحة طويلة الأمد، أبرزها في دارفور وجنوب السودان، كان للعامل القبلي دور محوري فيها. فشل التنمية في هذه المناطق مرتبط بالتوزيع غير العادل للثروات والسلطة، نتيجة تحكم نخب قبلية معينة بمفاصل الدولة.

الحلول المقترحة لمواجهة التعصب القبلي

1. تعزيز الهوية الوطنية

غرس مفهوم المواطنة والولاء للوطن في المناهج التعليمية، والابتعاد عن تمجيد الانتماءات القبلية الضيقة. يجب أن يشعر المواطن أن انتماءه للدولة فوق أي انتماء آخر، وأن مؤسسات الدولة تحمي حقوقه وتحترم حريته.

2. إصلاح مؤسسات الدولة

تقوية مؤسسات الدولة وجعلها حيادية وشفافة في تعاملها مع المواطنين، يحد من الحاجة إلى الاحتماء بالقبيلة. فحين يشعر الفرد أن القانون يحميه ويضمن له العدالة، لن يحتاج إلى دعم قبلي لنيل حقه.

3. المساواة في توزيع الثروات والخدمات

توزيع مشاريع التنمية والبنية التحتية بشكل عادل بين كافة المناطق يخفف من الشعور بالتهميش الذي يولّد النزعات القبلية. العدالة الاقتصادية تمثّل أساسًا ضروريًا للتماسك المجتمعي.

4. إشراك القبائل في العملية التنموية

بدلاً من إقصاء البُنية القبلية، يمكن إدماجها في مشروع التنمية، من خلال العمل على توعية القيادات القبلية بدورهم الجديد كشركاء في التغيير، وليس كأوصياء على مصالح فئوية.

5. سنّ القوانين الرادعة ضد التمييز القبلي

يجب أن يتضمن القانون عقوبات صارمة ضد كل من يمارس التمييز أو التحريض القبلي، سواء في التوظيف أو التعليم أو الإعلام. القوانين يجب أن تكون واضحة وقابلة للتطبيق الفوري.

دور الإعلام والثقافة في التصدي للتعصب القبلي

للإعلام دور محوري في صناعة الوعي وتشكيل الرأي العام. وعليه تقع مسؤولية كبيرة في محاربة التعصب القبلي عبر:

• نشر قيم التسامح والانفتاح والتنوع.

• تقديم نماذج ناجحة لأشخاص تجاوزوا الانتماء القبلي وحققوا إنجازات وطنية.

• فضح ممارسات التمييز والتفرقة القبلية وتوعية الجمهور بأخطارها.

• دعم الإنتاج الثقافي والفني الذي يُعزز الانتماء الوطني.

جدول: مقارنة بين آثار التعصب القبلي ونتائج التنمية الوطنية

خاتمة

التعصب القبلي ليس مجرد بقايا من الماضي، بل هو تهديد مباشر لحاضر المجتمعات ومستقبلها. إنه يُقوّض فرص التنمية، ويُغذي الانقسام، ويُضعف الهوية الوطنية. وفي المقابل، فإن تجاوز هذه العقبة يتطلب إرادة سياسية، وتخطيطًا وطنيًا بعيدًا عن المحاصصة القبلية، ومجتمعًا مدنيًا واعيًا يُحارب كل أشكال التمييز. بناء التنمية يبدأ من تحطيم جدران الانتماء الضيق، والانطلاق نحو فضاء الوطن الشامل الذي يحتضن الجميع.

المراجع:

• محمد عابد الجابري، “العقل السياسي العربي”، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990.

• علي الوردي، “وعاظ السلاطين”، دار الوراق للنشر، بغداد، 2005.